الأربعاء، 21 أكتوبر 2009

ســجـــن ســاره


في عام ٢٠٠٤، كلفت في عملي بأن أكون مسئوولا عن مشروع صيفي يقام في الشركه من خلاله يستطيع الشباب ذكور و إناث من عمر ١٤ و حتى ١٨ الاشتراك و العمل معنا كموظفين في الشركه و ذلك بهدف إفادتهم خلال إجازه الصيف


إنظم إلينا ١٥ شاب و شابه، كانوا بكامل حماسهم و طاقتهم للعمل، جميعهم مرنين في التعامل، لطيفين، أشقياء و لكنهم ممتعين! كان من بينهم فتاة تدعى (ساره). كانت سارة معاقة ذهنيا، لا تستوعب حديثنا من أول مره، و لا تستجيب له كما يستجيب الجميع، كلماتها مفككه، جملها بطيئه. سألت الإداره عن كيفية انضمامها، و عرفت بأنها انضمت بناء على واسطه أحد الزملاء في الشركه. حرصت على أن أعاملها بشكل مغاير دون أن أشعرها بإعاقتها أو اختلافها عن المجموعه، دمجتها معهم، و لكني كنت أراقبها بإهتمام


بدأ العمل الصيفي مع المجموعة اللطيفه، و كأي مجاميع يعملون مع بعض، كانت هناك لحظات رائعه، و هناك لحظات جميله ، و لحظات أخرى جيده، و طبيعي أن تكون هناك لحظات سيئه و هي حينما يتعارك شباب المجموعه مع بعضهم أويتناجرون و يتداحرون! و لكن بشكل عام، كان المشروع و العمل ممتع جدا و ناجح جدا.


أما ساره .. فقد كانت منغمسه في  العمل مع المجموعه دون أن تسبب أي توتر، كانت مثالا للشابه الخلوقه، تتواجد في مكان العمل باكرا و قبل الجميع، و لا تخرج الا وهي منتهيه من جميع مهامها، لم تنجح في تكوين علاقات، و لم يحاول الآخرون مصادقتها، لم تكن ساره تعبر عن أي مشاعر سلبيه أو إيجابيه، كانت كالإنسان الآلي الذي يستجيب للطلب و يطبق! و لكن وجودها كان جميل بيننا و كانت الوحيده التي تسميني أستاذ من بين المجموعه!


بعد انتهاء المشروع الصيفي و خلال حفل الوداع، سلم علي الجميع و شكروا اهتمام الشركه بهم، كانت ساره في هذه الأثناء تقف بعيدا وحدها و تراقبني، انتظرت حتى رحل الجميع، ثم تقدمت نحوي و سألتني


ساره:  استاذ ميخالف أكلمك؟ 


رديت عليها: أكيد، قعدي خنسولف و أبيج تقوليلي عن اللي استفدتيه من المشروع الصيفي 


ساره: وايد وناسه استاذ، وايد استفدت .. بس.. (و أدمعت عيناها)


سألتها: شفيج ساره؟ 


ساره: استاذ في شي أبي أقوله لك


سألتها: قوليلي


ساره: إستاذ أنا أسمع دايما أهلي يقولون عني معاقه و عقلي مو طبيعي، و هم وأنا هني أسمع البنات و الشباب يقولون نفس الشي و يضحكون علي  بس ترى في شي محد يعرفه، لا اللي هني و لا أهلي حتى


سألتها بذهول: شنو هالشي؟


ساره: أنا أفهم كل اللي يقولونه .. و أنا مو نفس اللي اهمه يتوقعونه، أنا صج أتكلم و أعبر جذي .. بس ترى مافيني شي .. و أتضايق وايد لما أحد غصب يقول عني جذي (ثم بدأت تبكي بحرقة و أكملت) أنا أهلي دخلوني مدرسة خليفه مالت الناس المعاقين،  و بالبيت ما يخلوني أسوي شي، و لا يعاملوني مثل باجي اخواني، لأنهم يحبوني وايد يحسسوني  اني مو طبيعيه و يخافون علي من كل شي، بالغصب خلوني أشترك بالصيف معاكم، و أنا زعلانه اني برجع البيت و برجع نفس أول جني معاقه .. مشكور استاذ .. مشكور وايد لأنك خليتني حالي حال الباجي، الله يخليك لا تقول حق أحد انني قلت لك هالكلام .. الله يخليك .. و أنا عمري ماراح أنساك استاذ .. مشكور


وعادت ساره الطبيعيه الى عالمها المتخلف .. عادت ساره الحره الى سجنها


الله يحفظ ساره و يحفظكم


هناك تعليق واحد:

  1. نخطئ عندما نقيم الآخير على حسب ادراكنا لإستعيباهم

    هناك دائما زوايا معتمه مثل الزاوية الميته بالمرآة الجانبيه للسيارة

    لا نستطيع رؤيتها

    اذن ادراكنا لهم ناقص
    واستيعابنا له زاوية ميته معتمه
    وبالتالي التقييم خاطئ

    اصعب انواع السجن هو ما تعانيه ساره
    اتمنى ان تكون بخير


    وصباحك طيب يا بوادر شتويه جميله

    ردحذف